المحافظة على البيئة
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى والذي سخر لنا ما في السموات وما في الأرض نعمة منه وفضلا وهو القائل: >الم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة<.
عندما بزغ فجر الإسلام، لم تكن الحياة بالتعقيد الحضاري الذي نشهده اليوم، فلم يكن هناك ما يعرف بالتقدم التكنولوجي والتقدم الصناعي، وما يصحبه من تلوث واستنزاف للموارد التي خلقها الله للناس، وهو مما قد ينتفي معه - كما يتوهم البعض - ان تشكل البيئة المادية والاجتماعية وعلاقة الانسان بهما، محوراً من محاور اهتمام الاسلام.
فما معنى البيئة؟ وما نظرة الإسلام اليها؟ وما فضله في المحافظة عليها؟
البيئة في اللغة مشتقة من الفعل، بوأ، يقال تبوأت منزلا أي نزلته، والمباءة منزل القوم في كل موضع، والبيئة والباءة والمباءة المنزل، وقيل منزل القوم حيث يتبوأون من قبل واد أو سند جبل، وقد اشار القرآن الكريم الى هذا المعنى بقوله تعالى: >واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض ومفسدين<.
اذن البيئة هي المنزل او المكان الذي ينزل فيه الإنسان أو الحيوان، ويضاف الى ذلك ان البيئة تعبر عن الحالة، فيقال هو سيء البيئة، أي بحالة سيئة ويقال العكس فهو حسن البيئة، وبذلك يمكن القول بإن البيئة لغة يقصد بها المكان او الحالة التي عليها الكائن الناجمة عما يكتنفه من ظروف.
اما معنى البيئة اصطلاحا فقد حدده مؤتمر الامم المتحدة للبيئة البشرية الذي عقد عام 1972م بمدينة (استوكهولم) عاصمة السويد بأنه رصيد الموارد المادية (الطبيعة) والاجتماعية المتاحة في وقت ما وفي مكان ما، لاشباع حاجات الانسان وتطلعاته.
فالبيئة الطبيعية تتكون من الماء والهواء والتربة والمعادن ومصادر الطاقة والنباتات والحيوانات، وجميعها تمثل الموارد التي اتاحها الله للإنسان، كي يحصل منها على مقومات حياته، اما البيئة الاجتماعية فتتمثل في النظم الاجتماعية والمؤسسات التي اقامها الانسان.
وتمثل نظرة الاسلام الى البيئة جانباً رئيسا من جوانب العقيدة الإسلامية في تصورها الكلي الشامل للكون (الوجود) والانسان والحياة وما بينها من علاقات وارتباطها جميعا بالله سبحانه وتعالى.
وتقوم نظرة الاسلام الى البيئة على المبادىء والاسس التالية:-
1 - ان الإسلام قد سبق الانظمة المعاصرة في تأكيده على المفهوم الواسع للبيئة، بحيث يشمل هذا المفهوم الموارد الاجتماعية والموارد المادية المتاحة لاشباع حاجات الانسان، وعليه يمكن تعريف البيئة في الإسلام بأنها الاطار الطبيعي والاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان ويحصل فيه على مقومات حياته، من غذاء وكساء ودواء ومأوى ويمارس فيه علاقاته مع اقرانه من بني البشر، وبذلك يكون الاسلام قد اعطى مفهوما شاملا للبيئة قبل ان يتوصل اليه مؤتمر استوكهولم عام 1972 .
2 - ان الإسلام يقرر أن كل ما في البيئة خلقه الله بقدر وتوازن وبحكمة معينة، فالكون بكل ما فيه خلقه الله خلقا هادفا وبحكمة بالغة، قال تعالى: >وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين<، والكون بكل ما فيه يسبح لله، وهو يعكس نظام الوحدة بين اجزائه بتوازن عجيب، قال تعالى: >والأرض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء الا عندنا خزائنه، وما ننزله الا بقدر معلوم<.
3 - ان الإسلام يقرر ان البيئة بكل ما فيها قد سخرها الله للناس حتى ينتفعوا بما فيها استمراراً لمعاشهم وعمرانا لحياتهم، وهي نعمة من الله تستحق الشكر من جانبهم، قال تعالى: >وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه<، فعلاقة الانسان بالبيئة هي علاقة تسخير واستثمار تجسيدا لرسالته في الحياة، فالإنسان جزء من البيئة ومكون رئيسي من مكوناتها، وهو مخلوق من عناصرها، أي من حفنة من ترابها، قال تعالى: >والله خلقكم من تراب ثم من نطفة)، ولهذا فهما مخلوقان لله من مادة واحدة وبينهما صلة مشتركة ويخضعان لنواميس الحياة وقوانين الوجود، ومن هنا فإن علاقة الإنسان بالبيئة علاقة وئام ووفاق، فالكون ليس عدوا للحياة ولا عدوا للإنسان، وليست الطبيعة خصما للانسان يصارعه ويغالبه.
ان حق الاستثمار والانتفاع والتسخير الذي شرعه الله للانسان يقابله بالضرورة واجب يقتضي من الإنسان النظر والتأمل في البيئة، وما فيها من روعة وجمال، تقوية لإيمانه، وتنمية لمعرفته، قال تعالى: >قل انظروا ماذا في السموات والأرض<.
4 - ان الإسلام يأمر بالمحافظة على البيئة ومواردها وينهى عن تلويثها وتعطيل دورها في الحياة، وهو يقرر ان الله جعل الأرض صالحة لحياة الانسان وان تلويثها كان جراء افساد الناس لها، قال تعالى: >ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها<، وقال تعالى: >كلوا من ثمره اذا اثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا، انه لا يحب المسرفين<.
ففي هذه الآية الكريمة يأمرنا الله تعالى بالمحافظة على موارد الارض وخيراتها وينهانا عن الاسراف في استعمال هذه الموارد واستنزافها، كالماء والكهرباء والمحروقات، مؤكداً بأن استمرار عطاء الارض بما فيها مشروط بالمحافظة على مواردها، وبدفع حقوق الله وحقوق المحرومين الواجبة فيما يخرج منها، فالاسلام يحث على الاعتدال والتوسط في الانفاق ويعتبرهما من صفات المؤمنين (والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)، ويحذر الاسلام من جهة اخرى من استنزاف الموارد وهدرها بالاسراف والتبذير حتى انه جعل المسرفين اخوان الشياطين (ولا تبذر تبذيرا، ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)، واعتبر الإسلام الاسراف من قبيل الافساد في الأرض، قال تعالى: >ولا تطيعوا امر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون< وذلك لان الاسراف والتبذير مطاوعة للنفس الأمارة لشهواتها، وهو مظهر من مظاهر الترف والبذخ وعدم تقدير النعمة، وهو من وجهة نظر عماد الدين خليل ممارسة مدمرة سواء لجماعة كلها او للمترفين انفسهم.
5 - ان الإسلام يحث على نظافة البيئة أرضا وماء وهواء، قال صلى الله عليه وسلم: (امط الاذى عن الطريق فإنه لك صدقة) وقال: (من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم تعدياً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار)، وقل: (لا يبولن احدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)، وقال: (اتقوا اللاعنين، قالوا وما اللاعنان؟ قال الذي يتخلى في طرق الناس او في ظلهم، وقال : من آذى المسلمين في طرقهم وجب عليه لعنتهم، واعتبر البصاق على الأرض خطيئة فقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وقال: (اطفئوا المصابيح اذا رقدتم واغلقوا الابواب، وأوكوا الاسقية، وخمروا الطعام والشراب).
6 - ان الإسلام طبق عمليا مبادئه ومفهومه عن البيئة، وجعل الالتزام بها من قبل الفرد والدولة باجهزتها العديدة كالمحتسب عبادة لله يثاب عليها، فقد فهم المسلمون واجبهم نحو البيئة، وتمثلوه في حياتهم حتى في حالة الحرب، ويؤكد ذلك وصية ابي بكر الصديق لاسامة بن زيد الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدا لجيش المسلمين في محاربة الروم، فقد أوصى ابو بكر قائده وجنده بقوله:>لاتخوفوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة ولا تعقروا نخيلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً<.
هذا هو الموقف المتميز للإسلام، من البيئة، الذي يمتاز بوضوح عن موقف الانظمة الأخرى التي تطلق القنابل الذرية والنووية وأسلحة الدمار الشامل، وتحرق الاخضر واليابس في سبيل فرض سيطرتها وهيمنتها على الشعوب، دون تفريق بين طفل وامرأة ونبات وحيوان، وهي لاتزال تسعى الى تدمير الكون بما فيه من سماء وارض من خلال تسابقها الى ما تسميه حرب الكواكب والنجوم.
فأين هذه الأنظمة من الموقف السامي للإسلام في محافظته على البيئة ودعوته الى عمرانها، وهي لا تقر بان البيئة وما فيها نعمة من الله تستحق الشكر والتقدير.